

مدونة تسيير الموارد البشرية
تُصوَّر بيئات العمل في الغالب كمواطن يزدهر فيها الأفراد، ويتعاونون بفاعلية، ويسهمون في تحقيق أهداف مشتركة. غير أنّ تسلل السُّمّية إلى هذه البيئات يُحدث تحوّلاً جذريًا؛ إذ تنتقل من كونها مساحات للنمو والنجاح إلى ساحات للبقاء والإنهاك. وتُجسّد الصورة أدناه هذه الظاهرة بجلاء: فبيئة العمل السامة أشبه بجرفٍ حاد، تستقطب الكفاءات في ظاهرها، لكنها سرعان ما تدفع بهم إلى هوّة الاستنزاف وتزايد معدلات دوران العمالة.
تتّسم بيئة العمل السامة بانتشار سلوكيات سلبية مثل التنمّر، والمحسوبيّة، والإدارة التفصيليّة المفرطة، وانعدام المساءلة، وضعف التواصل. تُفضي هذه الممارسات إلى خلق بيئة يشعر فيها الموظفون بالتقليل من قيمتهم، وغياب الدعم، وفقدان الدافعية. ومع مرور الوقت، تتآكل المعنويات وتُصبح السُّمّية سببًا رئيسًا في تسرب المواهب وتزايد معدلات دورانها.
تآكل الثقة: يفقد الموظفون إيمانهم بالقيادة عندما تُنكث الوعود أو يُتغاضى عن السلوكيات غير الأخلاقية.
غياب التقدير: الأفراد ذوو الأداء العالي، الذين يشعرون بأنهم غير مرئيين أو غير مقدَّرين، يكونون أكثر عرضة للرحيل.
الاحتراق الوظيفي: أعباء العمل غير الواقعية وغياب التوازن بين الحياة والعمل تدفع الموظفين للبحث عن بيئة أكثر صحة واستقرارًا.
العلاقات السامة: المديرون أو الزملاء ذوو السلوكيات السامة يُولِّدون بيئة من التوتر ويقوّضون الرضا الوظيفي.
لا يُعدّ معدل دوران الموظفين المرتفع مسألة معنويات فحسب، بل هو تحدٍ مالي بالغ التأثير. فتكاليف الاستقطاب والتوظيف والتدريب تشكّل عبئًا ماليًا كبيرًا على المؤسسة. وإلى جانب ذلك، يؤدّي فقدان المعرفة المؤسسية وتراجع إنتاجية الفريق إلى تفاقم المشكلة. كما تُسهم السُّمّية في تشويه سمعة المنظمة، مما يجعل جذب الكفاءات مستقبلاً أكثر صعوبة وتعقيدًا.
لمنع نزيف المواهب، يتعيّن على المؤسسات الاستثمار في ترسيخ ثقافة عمل إيجابية وداعمة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الخطوات التالية:
تعزيز التواصل المفتوح: تشجيع الموظفين على التعبير عن مخاوفهم وآرائهم دون خوف من العواقب.
إعطاء الأولوية لتدريب القادة: تمكين المديرين بالمهارات والأدوات اللازمة للإلهام والدعم الفعّال لفرقهم.
تقدير الجهود ومكافأة الإنجازات: الاحتفاء بالنجاحات لإيصال رسالة واضحة بأن عمل الموظف محل تقدير.
الاستثمار في رفاه الموظفين: توفير موارد للصحة النفسية، وترتيبات عمل مرنة، وفرص للنمو المهني والتطوير.
تطبيق مبدأ المساءلة: ضمان محاسبة جميع الأفراد، بغضّ النظر عن مناصبهم، على سلوكياتهم داخل بيئة العمل.
المنظمات التي تتجاهل السُّمّية تُخاطر بالتحوّل إلى ما يشبه الجرف—بُنية تبدو جذابة من الخارج، لكنها تنطوي على بيئة خطرة لمن هم بداخلها. أما حين تُعطى ثقافة العمل الصحية الأولوية، فإن المؤسسات لا تحافظ فقط على أفضل كوادرها، بل تبني أيضًا فرق عمل مزدهرة ووفية. لقد حان الوقت لتحويل بيئات العمل السامة إلى مساحات داعمة، تتيح للجميع فرصة حقيقية للنجاح.
0تعليقات