يُعد البحث عن أفضل الممارسات والاستراتيجيات من أجل الإبقاء على الموظفين وخفض معدل الدوران في الشركات الناشئة بمنزلة الهاجس الذي يشغل بال المديرين على الدوام. وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحسين تجربة الموظف ليشعر بانتماء أكبر تجاه الشركة. فما هي الآليات والطرق التي تُمكن رواد الأعمال ومديري الموارد البشرية من الحفاظ على الموظفين وتحسين تجربتهم في الشركة؟
ما هو معدل دوران الموظفين؟
يقصد بمفهوم الدوران أو دوران العمالة نسبة عدد الموظفين الذين يغادرون الشركة إلى عدد الموظفين الجدد الذين يلتحقون بها خلال فترة زمنية محددة. ويعبر معدل الدوران عن مدى كفاءة الأداء الإداري في الشركة، ويترتب عليه إضافة أعباء مالية للشركة تقدر بنسبة 21% تتوزع ما بين التدريبات المطلوبة للموظفين الحاليين، والمقابلات الجديدة لإعادة توظيف طاقم جديد.
مفاهيم تعزز الإبقاء على الموظفين في الشركة
في الوقت الذي تركّز فيه الشركات على تحسين تجربة الموظف عبر اعتماد آليات متنوعة بُنيَت وفقًا لتصور إدارة الموارد البشرية إلا أنّ تصورًا جديدًا يدعم استراتيجيات مختلفة مبنية على رؤى الموظفين ووفقًا لوجهة نظرهم، وهو ما يُعرف حديثًا بـ CMO of people أي أن يكون الموظف وتصوراته هي المحور الذي تبنى عليه أيّ آلية أو استراتيجية تُعنى بتحسين تجربته في الشركة ورفع معدل الانتماء الوظيفي لديه.
يعزّز التصور الجديد ما يُعرف بالقيمة المضافة (Employee Value Proposition EVP) لدى الموظف أي ما يكسبه الموظف من كونه يعمل في شركة ما، وهو ما ينعكس بانخفاض معدل الدوران بما يقارب 70%. وعليه فإنه يُنصح بالتركيز على خلق الاستراتيجيات والآليات التي تزيد من فرصة اندماج الموظف في بيئة العمل في الشركة منذ اليوم الأول بما يسمح له بإدراك أهميته في الشركة ودور الشركة في تعزيز مسيرته المهنية.
افهم موظفك جيدًا
المفتاح الأول في سلسلة أساليب الإبقاء على الموظفين هو إدراك أن ما يريده الموظف قد يختلف عن ما يتوقعه رب العمل. فبعض الأسباب قد تدفع الموظف للمغادرة، لكن ليس بالضرورة أن تكون سببًا في بقائه. الإجازات على سبيل المثال وجودها يعد أمرًا طبيعيًا ولكن غيابها قد يسبّب مغادرته.
وهنا تبرز أهمية الاستماع إلى التقييم الذي يقدمه الموظف للشركة من أجل إعادة تصميم التحفيزات وفقًا لما يرغب به. فالإبقاء على الموظف لا يعني أن تقدم الشركة التنازلات والتعويضات المستمرة، بل يعني فهم النقاط التي يعطيها الموظف قيمة عالية ومكافأته عليها، لأن التحفيزات القديمة وإن كانت ناجحة في الحفاظ على الموظف قد لا تمنحه الاستدامة التي تبحث عنها الشركة.
هنا يمكن القول أن المكافأة لا يعني أن تتخذ شكلًا ماليًا فقط. فوفقًا للدراسة التي قامت بها مدونة بونسلي (Bonusly Blog) حول “خمس لغات للتعبير عن التقدير” بينت أن التقدير يمكن أن يأخذ طابعًا شفهيًا، مثل: الثناء العام والمباشر، أو طابعًا خدماتيًا مثل: مساعدة الموظف في أوقات ضغط العمل، أو على شكل تقديم الهدايا أو القهوة. بل ويمكن أن يتجاوز ذلك ليكون التقدير على شكل أنشطة ترفع من جودة وقت الموظف.
الانطباع الأول مهم
من أسباب مغادرة الموظفين هو اختلاف الانطباع الأول الذي تكون لديهم خلال المقابلة أو أن توقعاتهم عن واقع العمل في الشركة. وعليه فمن المهم أن تزود الشركة الموظفين بتصور واقعي وحقيقي عن الوظيفة التي سوف يقومون بها وبيئة العمل الفعلية في الشركة.
يضاف الى ذلك، أن جزءًا كبيرًا من انطباع الموظف حول الشركة ينبني في الأيام الأولى التي يبدأ فيها دوامه. حيث تكون الفرصة سانحة أمام الشركة لمنح الموظف الشعور بأن قرارهم كان صحيحًا في العمل في هذه الشركة أو خاطئًا.
يستمر الانطباع والتصور حول الشركة في التكوّن لدى الموظف خلال تجربة عمله في الفترة الأولى من الالتحاق بالشركة. فمن الطبيعي أن يغادر الفرد المكان الذي يشعر بعدم أهميته فيه أو إهماله أو عدم التقدير الكافي. وما قد ينصَح به هنا هو أن تهتم الشركة بوضوح المهام والتوقعات المطلوبة من الموظف منذ البداية، بل والأهم من ذلك سهولة التواصل بينهم وبين مدرائهم للاجابة عن كافة التساؤلات لديهم.
الرضا الوظيفي مهم للإبقاء على الموظفين
لا يخلو أي مقال يناقش الإدارة في الشركات من التركيز على دور القيادة وأهمية أن يتحلى المدراء بمهارات قيادية عالية في نجاح الشركات، وهو ما ينعكس أيضًا على زيادة معدلات الإبقاء على الموظفين. فمن الضروري تدريب وتزويد مديري الأقسام والمديريين التنفيذيين بجميع المصادر والأدوات والمعلومات الكافية لتمكينهم من قيادة فرقهم بمهارة عالية.
بالمثل، فسعي الشركة إلى الابقاء على الموظفين يشمل الإبقاء على المديريين والقادة كذلك. فقد يخطئ رب العمل حين يظن أن وجود الشخص في منصب أعلى من غيره عاملًا كافيًا لكي يتمسك بالعمل، بل أن التقدير والدعم هو ما سيحقق ذلك.
وهو ما يظهر جليًا في دراسة نشرت على موقع استراتيجية وبزنس، فقد رصدت نسبة دوران تصل إلى 17.5% بين المديريين التنفيذيين في عام 2018 وهو ما يُعد مؤشرًا واضحًا على أهمية العناية بتطوير استراتيجيات الإبقاء وتعزيز الانتماء لديهم في الشركة.
منحنى تعلُّم بلا نهاية
مثلما تسعى الشركات إلى تحقيق النمو المستمر وتطوير أقسامها فإن ذلك يعني التعلم المستمر من قبل الموظفين. وفي اللحظة التي يشعر فيها الموظف بأن ما يُوكَل إليه لا يتناسب مع مقدار معرفته وقدرته فإن الإبقاء على الموظف يصبح أصعب.
تخصص الشركات عادة ميزانية معينة لتدريب وتأهيل الموظفين في بداية العمل، وهو ما يلزم أن يأخذ طابع الديمومة، بدلًا من كونه مجرد فترة مؤقتة. إذ أن الحفاظ على الموظفين يصبح ممكنًا كلما شعر الموظف بأن الشركة تعي باحتياجاته وتسعى لتطوير مهاراته خلال مسيرته المهنية بدلًا من شعور الدوران حول نفس المهام فينتج عنه الملل ومن ثم الهروب.
يحدث باستمرار أن يمتلك بعض الموظفين مستوى من الطموح أعلى من زملائهم. فتجدهم يبحثون باستمرار عن ما يمكن أن يتعلمونه لإضافة لمستهم الخاصة إلى العمل والحصول على ترقيات، وهو ما يمكن للشركة تقديمه عبر توفير فرص للتعلم الأونلاين أو من خلال جلسات من الإرشاد والتقييم والدعم أو تعزيز الدعم ما بين الزملاء.
يضاف الى ذلك، أن تجربة التعلم تعتبر تجربة شخصية فتختلف وتتغير وتتخذ أشكالًا وسرعات مختلفة بين الموظفين. ولذلك فإن الوعي بها يساعد في تحسين تجربة الموظف وتخصيصها، فيشعر بخصوصية تجربته ومركزية دوره في الشركة مما يرفع من مستوى الرضا وبالتالي القدرة على الإبقاء على الموظفين.
دع الموظف يتنفس قليلًا
من البديهي أن يشعر الموظف بضغط العمل ما بين فترة وأخرى وأن ينعكس هذا ولو قليلًا على حياته اليومية. لذلك تنصح الشركات بإعطاء الموظف مساحة ليتنفس قليلًا ضمن استراتيجيات الإبقاء على الموظفين. قد يساعد في ذلك تصميم المهام وإعادة تنظيم الأعمال الموكلة للموظف بما يتناسب مع طبيعة الوقت الذي يلزم الموظف لتنفيذها، ووفقًا لقدرته على دمج عدد إضافي من المهام أو العمل على مهام أخرى بالتزامن.
ولتحقيق ذلك فإن مستوى من الدعم والتعاون لابد من توفيره لكي لا يشعر الموظف أنه وحيدًا أو أن ما تتوقعه الشركة منه يفوق قدرة احتماله. وهنا يجب الإشارة أن الدعم لا يعني بالضرورة أن يكون مركزيًا، فيمكن أن يحدث توزيع أدوار الدعم لتكون من موظف إلى زميله، مما يعزز من ثقافة التعاون ويخلق بيئة عمل منسجمة فينعكس على قدرة الشركة على الحفاظ على الموظفين.
يضاف إلى ذلك، ضرورة وعي الشركة بتطوير الأساليب التي تساعد الموظف على تحقيق توازن أفضل بين حياته اليومية وضغوطات العمل. فالموظف الذي يقضي وقتًا طويلًا من يومه داخل الشركة ستتأثر صحته النفسية والجسدية وستنعكس على جودة عمله، مما يستدعي ضرورة تخصيص أوقات خلال الدوام لممارسة الرياضة أو بعض النشاطات التي تضفي جوًا مختلفًا على الأنشطة اليومية للموظف.
استراتيجيات عملية ناجحة في الإبقاء على الموظفين
استراتيجات الحفاظ على الموظفين
1. اختر الموظف المناسب من البداية
ما هو متعارف عليه تقليديًا هو أن تضم كوتة الموظفين في الشركة عددًا قليلًا من الموظفين ذوي القدرات المتميزة، وشريحة أكبر من الموظفين ذوي القدرات المتوسطة، وعددًا محدودًا من الموظفين ذوي القدرات الاعتيادية. لكن الأسلوب الذي تبنته المديرة التنفيذية باتي ماكورد (Patty McCord) في شركة نتفلكس كان نموذجًا مبتكرًا في عالم الأعمال.
وفقًا لرؤيتها فلا يوجد هناك داعي لوجود موظف ذي قدرة متوسطة أو محدودة إذا كان بالمكان توظيف مميز من البداية. إذ قالت في حوارها مع مجلة هارفرد بيزنس ريفيو “حين ندرك القيمة التي سيضيفها الموظفون ذوي القدرات العالية فما الحاجة لتوظيف أي شخص آخر غيرهم أو أقل منهم”.
تبرز قوة هذه الاستراتيجية في جانبين: الأول هو تجنيب الشركة طرد الموظفين أو استبدالهم لأن قدراتهم أقل، ومن جانب آخر فإن الموظف المميز والقادر على الإبتكار وإضافة القيمة إلى عمله لن يقبل إلا ببيئة العمل المتوافقة مع طموحه وقدراته. وبذلك فإن الشركة ستبذل الجهد في الحفاظ على الموظفين المناسبين عند توظيفهم منذ البداية بدلًا من تضييع الوقت والمصادر في الإبقاء على موظف غير مناسب.
2. اصنع مديريين عظماء
لأن تطبيق رؤية الشركة ونجاح تنفيذ الاستراتيجيات قصيرة وطويلة المدى يقع على عاتق المديرين. فإن قدرتهم على بناء فريق عمل عظيم سيوفر على الشركة الكثير من الجهد والعبء في الإبقاء على الموظفين، حيث تستطرد باتي ماكورد (Patty McCord) قائلة: “إننا نقول للمديرين في نتفلكس باستمرار أن مهمتهم الأكثر أهمية هو بناء فريق عظيم، فلسنا نهتم بقياس قدراتهم التدريبية أو المعرفية أو عدد المهام المنجزة في الوقت المطلوب”.
3. أضف قيمة للموظفين
يقدم المدير التنفيذي “جون ماكي” (John Mackey) لسلسلة متاجر Whole Foods الغذائية في الولايات المتحدة نموذجًا مبتكرًا في الإبقاء على الموظفين، من خلال نموذج عمل يقوم على أساسات مشتركة بين نوعية المهمة الموكلة إلى الموظف والقيمة المضافة التي تمنح المهمة بُعدًا آخر يخلق الرضا والتحفيز لديه.
ففي أحد مقالاته يقول: “أن بناء ثقافة عمل تعزز القيمة المضافة في شركته تحدث من خلال أمرين؛ دعم تميز الموظف وسعادته من ناحية، ودعم وخدمة المجتمع المحلي والعالمي من ناحية أخرى”. ويمكن قراءة نجاح هذه الاستراتيجية في الحفاظ على موظفين لأنه لن يفكر أي موظف أن يترك عملًا يشعر فيه بقيمته أولًا وأن عمله يضيف قيمة للمجتمع من حوله.
4. امنح الموظف الحرية ليكون نفسه
ثقافة التمييز بين شخصية الموظف في العمل وشخصيته خارج العمل سادت، ومازالت سائدة في كثير من الأعمال والشركات. فتجد الموظف ملزمًا بالتصرف وفق بروتوكول معين وارتداء زي محدد خلال وقت عمله وهو ما لا يشبه شخصيته الحقيقية أو يمنحه القدرة على التعبير عن نفسه.
في متاجر Whole Foods يتبع جون ماكي (John Mackey) استراتيجية مبتكرة تخالف ما هو متعارف عليه تقليديًا. فلو سنحت لك الفرصة للتجول هناك سوف تلحظ غياب الزي الموحد، بل سوف يلفتك كمية الارتياح التي تبدو على الموظفين في التعامل وقدرتهم على التعبير عن شخصياتهم الحقيقية دون أي تكلّف أو تخوّف.
في النهاية، تتنوع الاستراتيجيات والممارسات التي تتبعها الشركات من أجل الإبقاء على الموظفين. ولكن ما أثبت نجاحه هو ضرورة خلق وتبني رؤية ابتكارية داخل الشركة من أجل خلق حلول وطرق ذات كفاءة مناسبة.
0تعليقات